يتم التشغيل بواسطة Blogger.

مقال جديد لفاطمة ناعوت

نشر من قبل Unknown  |   8:42 ص

مقال جديد لفاطمة ناعوت 



[COLOR=black !important] كنتُ أنتوي أن يَخلُص عمودي «زهرة»، بجريدة «أخبار الأدب»، للأدب، ولا شيء غير الأدب، وما يدور في فلكه من روافده. فأنا أحبُّ التخصص والنظام. أعمدتي بصفحات الرأي، تحمل رؤاي في شأن الوطن والهمّ العام. وأعمدتي في الصفحات الثقافية والأدبية تجهدُ أن تضيفَ خيطًا نحيلا للنسيج الشاسع الذي بدأ الأوّلون في غزله قبل آلاف السنين، منذ عرف الإنسانُ في فجر التاريخ، أن الفنَّ خصيمُ القبح، وعدو «الهمجيّ» (الساكن داخلنا)، يحاول دائمًا أن يطلّ برأسه، فيأتي الفنُّ ليقمعَه ويدرّبه علي الإنصات إلي صوت التحضّر والترقّي. لهذا قال أفلاطون قبل ستين قرنًا: «علّموا أولادَكم الفنَّ؛ ثم أغلقوا السجون.» ذاك أن المجتمعَ الذي يحترمُ الموسيقي والمسرح والأوبرا والشِّعر والتشكيلَ والنحت والعمارة؛ تقلُّ فيه الجريمة، ويعلو الاختراعُ والصناعة والإنتاج؛ لأن «الكود» الأخلاقي لدي أبناء تلك المجتمعات، عادة ما يكون مرتفعًا، لأن الفنَّ يهذّبُ الروحَ ويسمو بها، فتنعدم الرغبةُ في الإجرام واستلاب حقوق الغير.
لهذا، كان عمود «زهرة»، هو «زهرتي» التي أصافحُ بها قارئي كل أسبوع من هنا. قارئي الذي عرفني شاعرةً، ولم يعرفني كاتبةَ رأي. فالأدبُ هو حقلي الأثير، الذي أهرب إليه من أوجاعي الخاصة، والعامة. وهو الحقلُ الذي من أجله تركتُ عملي، بعد عشر سنوات، كمهندسة معمارية.
لكنها الثوراتُ و»سنينها»! إنها الأوطانُ التي تتسرّبُ من تحت أقدامنا، لنقفَ في الفراغ عرايا دون مظلة دفء! إنها ذكرياتُ الطفولة التي تتسرب من بين أصابعنا؛ لنصحو علي وطن غريب لا نعرفه ولم نعتد علي قراءة كتالوجه العنصريّ الذي يكتبه لنا غرباءُ لا يعرفون فطرة المواطن المصري الجميلة! فكيف أكتبُ عن الجمال؛ وكلُّ ما حولي قبيحٌ؟ كيف أزرع «زهرة» طوال أسبوع؛ لأقدمها لقرائي ها هنا، بينما كلُّ ما حولي قفرٌ في قفرٍ وجدبٌ في جدبٍ؟
هل هذه «مصر»؟ أين مصرُ التي نعرفها؟ أين مدارسُنا القديمة، وجيرانُ الحي الطيبون، وأحوالُ طفولتنا البريئة؟ أين شعبُنا القديم الذي لم يعرف الفرقةَ ولا التشتت؟ أين النيلُ الذي جري في دمائنا جميعًا منذ آلاف السنين، فزرع في خلايانا الحبَّ والتوادّ والرحمة؟ أين الفخرُ الذي كان يُدثِّرُنا حين نسافر إلي بلاد الغرب ونقول بفخر إننا من مصر، بلد الحضارة العريقة؟ أين المصريون؟
أنظرُ حولي فأري التنمُّرَ في العيون! أري الغضبَ والحَزَن والخوفَ من غدٍ مظلم وشيك، لا قدَّره الله ولا سمح به. الكلُّ يُخوِّن الكلَّ، والكلُّ يُكفِّرُ الكلًّ، والكلُّ يسبُّ الكلَّ! ما هذا المعجم الصعبُ (كيلا أقولَ: البذيء المنحطَّ المتدنّي السافلَ الرقيع) الذي بات يجري فوق ألسن رجالٍ، المفترض فيهم أن يُعلّمونا الارتقاءَ بالروح، علي شاشات الفضائيات؟
في محاضراتي، كنتُ أُطمئِنُ الناسَ بأن ما نحياه طبيعيٌّ في لحظات ما-بعد-الثورات. ولكن اللحظةَ طالت وباخت وشاخت وأوشكت أن تكون صفاتٍ متجزةً فينا، بدلَ أن تكون حالا عابرة، سرعان ما تتبدل!
منذ طارت أمي قبل سنوات وأنا أشعرُ بالمرارة والقهر. بل والظلم، لأنها تركتني، دون استئذان، وطارت إلي حيث تطيرُ الأمهات ولا يعدن أبدًا! لكنني، بالأمس، قبضتُ علي نفسي متلبّسةً بالفرح لرحيلها! أمرٌ عجيب! شعرتُ بالفرح لأنها طارت قبل أن تري مصرَ التي أراها اليوم. كلُّ مَن مات بالأمس محظوظٌ، لأنه لم يشهد هذه اللحظة التعسة التي تمرُّ بها مصر اليوم.
أبحثُ عن مصرَ التي أعرفُها، فلا أجدُها! أفتح أطلس لأتأكد أنها مازلت هناك. أرتعبُ أن أفتحه يومًا فأري محلّها بقعةً سوداء مظلمة! أشتاقُ إلي أم كلثوم، عبد الوهاب، طه حسين، زكي نجيب محمود، الإمام محمد عبده، طه حسين، مصطفي محمود! اشتاقُ إلي مصر المتحضرة المثقفة الراقية الأنيقة. مصرُ التي أراها اليومَ، لا أعرفها! 
[/COLOR]

Blogger Template By: Bloggertheme9