عادل حمودة يكتب : مصر مهددة بالإظلام فى يونيو القادم!
على آخر مصرى يغادر مطار القاهرة.. أن يحمل معه «بطارية» كى يعرف طريقه فى شدة العتمة إلى الطائرة!
كنت أتمنى أن أحمل إليكم فطائر من الفرحة والبهجة.. معجونة بالزبيب والفستق وعين الجمل.. لكن.. ذلك صعب.. فى وقت لا تبيع فيه مخابز السياسة سوى خبز الحزن والغلاء والقتل بالخرطوش.
لا أريد أن أسب أحداً.. أو أتهم أحداً.. أو أصف أحداً بالفشل والعجز.. فالجلود السميكة لا تشعر بوخز الكلمات.. لكن.. السحابة السوداء التى تتحرك الآن فى اتجاه مصر تنذر بأنها ستسكن فوق رؤوسنا.. وتحتل سماواتنا.. وتهدد بلادنا بإظلام تام.. لذلك نعود للتحذير من جديد.. لعل الطين الذى يسد الأذن قد أزيل.. ويمكن لأصحاب الهامات والمقامات أن يسمعوا.
سيأتى الصيف القادم علينا بخفوت هائل فى الكهرباء.. ربما يصل بنا إلى السواد التام.. لن نحرم فقط من نعمة أجهزة التكييف والتليفزيون وصناعة المرطبات.. إنها ترف لا ننتظره.. وإنما سيقضى «البلاك أوت» أيضا على ضروريات الحياة التى تموت دون طاقة النور بالسكتة الكهربائية.. أفران العيش.. علاج المستشفيات.. عدالة المحاكم.. يقظة أقسام الشرطة.. حركة البنوك.. سيولة التجارة.. اتصالات التليفونات.. ولن تستثنى القصور الرئاسية من العتمة على الرغم من أنها موصولة بكل محطات توليد الكهرباء فى القاهرة.
وفى العتمة ينشط اللصوص.. والبلطجية.. والجواسيس.. وتجار المخدرات.. وهواة التنظيمات السرية.. والإرهابية.. ليصبح الأمن القومى فى خطر حقيقى.. لا نستطيع أن نقيس مداه.. ولا نرصد تداعياته.. سنجد أنفسنا أمام ما يعرف بتأثير الدومينو.. حيث تسقط كل قطعة ما يليها من قطع فى سرعة مذهلة.. لينتهى المشهد بتمدد كل الجثث على الأرض.
هناك حلول عاجلة للكارثة لا تحتمل التأخير.. نلجأ إليها مؤقتا حتى تأتى الوسائل طويلة الأجل بالكهرباء التى تحمينا من العودة إلى أهل الكهف.. أسرع حل أن نتفاوض مع السعودية لتسمح لنا بأن ندخل على شبكتها القوية.. ولو مؤقتا.. لنحصل منها ما بعض ما لديها من فائض.. خاصة أن ساعات الذروة هناك غير ساعات الذروة هنا.. ولا يجوز رفض الفكرة بدعوى أن عمر سليمان سبق أن تفاوض عليها مع المسئولين فى الرياض.. فالمشروعات لا توصف بالفلول.. وإنما مهمتها توفير الحلول.
لكن.. اللافت للنظر أن رئيس الدولة فى زيارته الأخيرة للمملكة تحدث عن مشروع الجسر الذى يربطها بمصر على خطورته.. ولم يقترب من مشروع الشبكة الكهربائية الموحدة على ضرورته.
كما أن مخاوف السعوديين من مؤامرات الإخوان المسلمين قد تصبح عائقا سياسيا.. بجانب اللعب المصرى على الحبل الإيرانى فى سيرك المنطقة.
يضاف إلى ذلك أن تستخدم وزارة الكهرباء كل ما لديها من خبرات هندسية وفنية وتكنولوجية لتقليل الفاقد فى الكهرباء الذى يتسرب من محطات التوزيع النهائية القريبة من مناطق الاستهلاك.. ويصل الفاقد إلى نحو 25 % وهى نسبة تستحق الاهتمام.
وعلى الحكومة أن توفر للشركات المسئولة عن صيانة محطات توليد الكهرباء ما تحتاج من عملة صعبة تشترى بها ما تحتاج من قطع غيار.. استهلك بعضها بفعل القدم.. وسرق البعض الآخر بفعل الفوضى.. وهو ما يزيد من كفاءة تشغيل هذه المحطات بطريقة عاجلة دون تكلفة تذكر.
وكانت الحكومة قد استوردت فى عام 2011 عبر شركة الخرافى 22 محطة صغيرة.. تسمى «إسعاف».. تولد الكهرباء فى أوقات الأزمة.. على أن تعمل ثلاث ساعات فى اليوم.. فى ساعات الذروة.. لكن.. هذه المحطات تعمل طوال الليل والنهار.. دون توقف.. على خلاف ما يسمح به تصميمها.. وهو ما أدى إلى فقد ثلاثة أرباع كميات الغاز المستخدم لتشغيلها.. مما ضاعف من تكلفة إنتاج الكهرباء.. وحمل الدولة دعما إضافيا للطاقة.. إن دعم الطاقة وصل بعد الجنون الذى أصاب الدولار إلى نحو 150 مليار جنيه.. بما يمثل 76 % من جملة الدعم.. وبما يساوى ربع موازنة الدولة.. وهى مأساة بكل المقاييس.. تشعر الحكومة بالعجز عند التعامل معها.. فزيادة سعر المواد البترولية المستوردة من الخارج تعنى زياردة أسعار جميع السلع والخدمات بنسبة لا تقل عن 30 %.. وهو ما يهدد النظام السياسى الهش بمتاعب اجتماعية وأمنية ونفسية لا تنقصه.
وتعمل 90 % من محطات توليد الكهرباء بالغاز.. وفى وقت نعانى فيه نقصا فى إنتاج الغاز سيكون مصيرها التوقف.. لنصاب بالعمى.. أو تخفيض إنتاجها.. لنصاب بنصفه.. وكل وحدة غاز تستهلكها الكهرباء تسحب من المصانع والبيوت.. ولو شئنا تشغيل المحطات بالسولار.. سنحتاج إلى توفير أماكن كبيرة لتخزينه.. وتوفير مئات الملايين من الدولارات لاستيراده.. وربما.. كان الأفضل.. توفير الغاز الطبيعى بتنمية حقوله.. خاصة أن ما نملك من احتياطى كثير.. ومؤكد.. لكن.. المشكلة أن الشركات الأجنبية المنتجة ترفض ضخ المزيد من الاستثمارات ما لم تسدد لها وزارة البترول حقوقها المالية المتأخرة.. وتصل إلى سبعة مليارات دولار.. وفى نفس الوقت تطالب وزارة البترول وزارة الكهرباء بخمسين مليار جنيه ديوناً متراكمة.
وكانت الشركات قد قبلت بأن تستثمر المديونية فى إنتاج المزيد من الغاز.. وتنمية حقوله.. لكن.. الحكومة لم تدفع لها سوى جزء منها بالعملة المحلية.. وعجزت عن سداد جزء آخر بالعملة الصعبة.. وهى العملة التى تحتاجها الشركات للتعاقد مع الحفارات العملاقة التى تحفر على عمق ألفى متر فى البحر.. بعيدا عن الشاطئ بتسعين كيلومتراً.. كما هى الحال فى بئر شمال الإسكندرية التى تعمل فيها شركة «بريتش جاز».
وسبق أن وافقت مصر على أن تستخرج شركة أخرى هى «بى تى» الغاز من حقل يسمى «ريفين» فى محيط دمياط.. ونصت الاتفاقية التى وافق عليها مجلس الشعب على أن الشركة تعاقب بدفع غرامات مناسبة لو لم تستخرج الغاز.. وحسب تقديراتها.. فإن الكميات التى تعهدت بإنتاجها ستكفى لسد العجز الذى تعانى منه مصر.
لكن.. بعد الثورة.. تحرك «الدمايطة» للوقوف فى وجه الشركة.. وساندهم المجلس العسكرى.. وتجمدت الفرصة.
ويتولى التفاوض مع الشركات حسن مالك.. دون أن يعرف أحد صفته الرسمية.. أو حدود صلاحياته الفعلية عند التوصل إلى اتفاق؟.. هل يتجاوز وزير البترول ليكرر تجاوز عصام الحداد لوزير الخارجية؟
لكن.. المثير للدهشة أن الحكومة التى يمكنها حل المشكلة بترضية الشركات.. تركتها تخبط رأسها فى الحائط.. وراحت تفكر فى استيراد الغاز من الخارج بضعف تكلفة إنتاجه فى الداخل.. وهو عبث يصعب قبوله.. جعل مدير إحدى الشركات يقول لرئيس الحكومة: «ترفضون زيادة سعر الغاز الذى ننتجه من خمسة إلى ستة دولارات.. وتسعون لشرائه من الخارج بتسعة دولارات.. هل هذا أسلوب حكيم فى التفاهم معنا؟».
وكانت الحكومة قد أعلنت عن مناقصة لاستيراد الغاز أفصح عنها أحمد هيكل الذى سيشارك فيها بغاز من قطر.. فتقرر تأجيلها إلى الشهر القادم.. وكانت وزارة البترول قد اشترطت على المتقدمين إثبات قدراتهم المالية على التمويل الذى يحتاج إلى مئات الملايين من الدولارات.. وإثبات قدراتهم على تدفق الغاز دون انقطاع.
وتكلفة استيراد الغاز من قطر أعلى بسبب تحويله إلى سائل قبل نقله فى سفن إلى مصر ليعود مرة أخرى إلى حالته الغازية قبل استخدامه.. ويرى البعض أن الموانئ المصرية ليست فيها أرصفة تصلح لاستقبال هذه السفن.. وهو ما قد يلغى مناقصة استيراد الغاز من قطر.
ويمكن استخدام خط نقل الغاز من مصر إلى الأردن فى نقل الغاز من السعودية إلى مصر بعد إدخال الإضافات الفنية اللازمة عليه.. وهذا هو الحل الأفضل لو فكرنا فى استيراد الغاز.. فالتكلفة أقل.. والشروط السياسية تكاد تكون معدومة.
وربما.. كان استيراد الغاز من إسرائيل أوفر وأسهل لوجود الخط القائم الذى كنا نستخدمه فى تصدير الغاز المصرى إليها.. لكن.. يصعب على أحد قبول ذلك.. وكانت إسرائيل قد بدأت فى إنتاج الغاز.. وتتولى شركة تسمى «ديلك» تسويقه.. وهى تحدد كميات الإنتاج حسب الطلب.
ورغم أن إسرائيل أصبحت منتجة للغاز بوفرة.. فإنها من ناحية تطالب مصر بثمانية مليارات دولار فى عدد من قضايا التحكيم الدولى بسبب توقفنا عن ضخ الغاز إليها.. ومن ناحية أخرى.. فإن وفرة الغاز لم تصيبها بالصراع.. ولا تزال تتعامل فى إنتاج الكهرباء وفق ما يعرف بسلة الطاقة.. حيث تستخدم الغاز بنسبة 40% والفحم بنفس النسبة والسولار بنسبة 20%.. وهى خبرة نحتاجها فى مصر.. ألا ننتج الكهرباء من مصدر واحد.. هو فى حالتنا الغاز.. فلو حدث مكروه لحقل من الحقول أو أصيبت محطة توليد رئيسية بعطل غرقت البلاد فى الظلام.. وحسب تقرير صندوق مارشال (مؤسسة بحثية ألمانية تهدف لتعزير التعاون بين أوروبا وأمريكا الشمالية).. فإن منطقة حوض البحر المتوسط تخبئ فى بطنها كميات من الغاز تصل إلى 3500 مليار متر مكعب.. وهو ما يضمن إمداداته لفترة لن تقل عن خمسين سنة وربما تصل إلى مائة سنة.. وتشمل هذه المنطقة إسرائيل وقبرص وتركيا واليونان وليبيا ومصر.
فى مصر توجد حقول جاهزة على الحفر واستخراج الغاز.. ولكن.. العقبة الوحيدة هى مخاوف الشركات المنتجة من زيادة مستحقاتها لدى الحكومة.. والمخاوف الأشد أن تضطر هذه الشركات للهجرة إلى ليبيا بمعداتها وخبرائها للبدء فى إنتاج الغاز هناك.. خاصة أنه متوقع أن تستخرج ما لا يقل عن 50 مليار متر مكعب سنويا.. بشرط وجود مناخ سياسى مستقر فيها.. والرقم أربعة أضعاف ما ستستخرجه إسرائيل وقبرض معا.
والخطر هنا.. أن نبحث عن الشركات فيما بعد.. فلا نجدها.. فنفقد أهم حل لعلاج أزمة الطاقة على المدى البعيد أيضا.
إن أزمة الغذاء المتوقعة بسبب ارتفاع سعر الدولار يمكن احتمالها رغم صعوبتها.. ولكن.. كيف يمكن احتمال الحياة فى دولة معتمة.. عاجزة عن إنتاج الكهرباء.. سر الحضارة.. ومصدر الاستقرار.. والسبب المباشر للتقدم؟
لقد انتشرت نكتة فى إسرائيل وقت أن اشتدت عليها الهجمات الفلسطينية تطلب من آخر يهودى يغادر مطار بن جوريون فى تل ابيب أن يطفئ الأنوار.. لكن.. النكتة فى طبعتها المصرية تقول: على آخر مواطن يغادر مطار القاهرة أن يحمل معه «بطارية» كى لا يضل طريقه من شدة الظلام إلى الطائرة.
الفجر